وفاء لذكرى القائد القومي ادريس البارزاني
صلاح بدرالدين
تكريم الرواد والقاده
من السلف دليل صحي على جدية وأصالة أي شعب من شعوب عالمنا ، ولايقتصر
الوفاء في احياء ذكرى ميلاد أو وفاة لهذا الرمز أو ذاك في اجواء احتفالات روتينية
بل يتعلق الامر وفي جانب منه بقراءة الماضي بواقعية وباسلوب نقدي والنظر الى سيَر
العظام وبحثها لتشخيص ماهو ايجابي ونافع للجيل الذي يليهم والاستفادة من تجاربهم
لصالح المجموع شعباً كان أم وطنا أم قضية .
تاريخنا القومي مليء برجالات كبار قاموا بأدوار هامة ساهموا من خلالها في كتابة
تاريخ الكرد وكردستان باحرف مضيئة واذا لم يتسنى حتى الآن لاسباب موضوعية لمؤرخينا
ومثقفينا وكتابنا من سبر اغوار هذا الجانب واعطاء هؤلاء حقهم بتقييم ادوارهم
وانجازاتهم وعطاءاتهم ومناقشة افكارهم ومواقفهم حول الشأن القومي والمصير ووضع
تجاربهم في العملين الثوري والسلمي وابداعاتهم أمام الجيل الجديد لتعميم الفائده
واستكمال الخبرات وربط الحاضر بالماضي من اجل المستقبل ، أقول اذا لم يتم انجاز هذه
المهمة القومية النبيله حتى الآن وحسب ماهو واجب ومطلوب فذلك لايعني بانه علينا
تأجيل ذلك الى مالا نهاية بل يجب وخاصة في هذه المرحلة الدقيقة التي تجتازها الحركة
القومية الكردستانية أن نتصدى بكل ثقة وموضوعية لهذا الجانب وان نستحضر بامانة
تجارب نهج البارزانيزم الذي نحن اليوم بامس الحاجة اليه في " معركتنا الدستورية
والسياسية والفكرية " المندلعة الآن حول مصير شعب كردستان العراق وقضية الفدرالية
والشراكة مع العرب والقوميات الاخرى في العراق الجديد
المنشود.
ان استذكار احد أهم اعمدة –
البارزانيزم - واقصد المرحوم ادريس البارزاني بات من الضرورات المحتومة في زمن
الاصرار على ازالة آثار تعريب المناطق الكردستانية وفي القلب منها – كركوك – هذه
المدينه الكردستانية الازلية الخالدة التي لن تقوم قائمة للكرد ولكل القوميات
الكردستانية " تركمان – آشورييون – كلدان " اذا لم يجرى اعادتها الى موقعها
التاريخي الاصيل واعني موقع القلب النابض للاقليم الذي تحول منذ حوالي القرن الى
مركز التحدي ومنبع الصراع بين البارزانيزم واشكال الشوفينية والاستعلاء القومي
والذي لم يكن يومان من الايام مجال المساومة والمقايضه .
التقيت للمرة الاولى بالقائد ادريس الذي غاب وهو
مايزال في اوج عطائه ، في أيار من العام / 1967 وكان اللقاء مقدمة لابد منها للوصول
الى البارزاني الخالد ، وللوهلة الاولى للقاء شعرت بانني أمام انسان متواضع يحمل في
صدره ورأسه قضية ذات حجم كبير ، يخبئ في نظراته الثاقبه – سر ابيه – ويوجز في
كلماته تاريخ عائلة قومية ثورية يقظه قدر لها أن لاتبارح الهجرة والتشرد والثورة
على الحاكم الظالم والعيش في الجبال لاجيال عديده .
ولم أكن
أتوقع انني اتبادل الحديث مع شاب – كنت حينذاك في عمره – ينطق بموضوعات ويستخدم
مصطلحات لاتخرج إلا من افواه – الحكماء – الذين عجنتهم السنين وخبرتهم التجارب
والاحداث حيث كان عمره المعرفي اكبر من الزمني ، ومما زاد دهشتي واعجابي انني كنت
وجها لوجه أمام مناضل قومي صاحب ثقافة واسعة وحامل هموم كردستانية شاملة تتعدى حدود
كردستان العراق ، يلم بتفاصل احوال اشقائه في الاجزاء الثلاثه الاخرى ، ومطلع على
كل شاردة وواردة في اوضاع غرب كردستان الذى جئت منه بما فيها تعقيدات وصراعات
الحركة السياسية هناك بتفاصيلها وجزئياتها ، ولم يكن ترحابه بي واطمئنانه الي
واهتمامه بقدومي إلا تجسيداً لموقف سياسي محسوم من جانب قيادة ثورة ايلول حول
علاقات الود والصداقة مع ما امثل من حزب وموقف وجزء من كردستان .
اللقاء الثاني مع هذا القائد كان عام / 1970 بعيد اتفاقية
اذار حيث كنت في ضيافة البارزاني الخالد في – حاجي عمران – وقد تسنى لي الاجتماع به
مراراً والدخول معه في مناقشات طويله حول القضية القومية والمسائل الفكرية
والسياسية ، واستخلصت كثيراً من الانطباعات عن فكره وهويته الثقافيه ومواقفه من
الاحداث وفي هذه المرة شعرت بانه اكثر انفتاحاً واكثر اهتماماً وكانت النقاشات
تتعمق بيننا احيانا وتزداد حرارة . فمن جهة كان معجباً بموقفنا القومي وادائنا
السياسي والتنظيمي وعلاقاتنا العربية والاشتراكية ويعتبرنا من اقرب الفصائل القومية
الكردستانية الى ثورة ايلول والبارزانيزم والبارتي مع توجيه ملاحظات جديه حول
افراطنا في الجانب الايديولوجي والتزامنا بالماركسية – اللينينيية حسب ماكان يراه
حينذاك ، ولكن لم تكن ملاحظاته إلا من باب الحرص ولم تكن لتقف عاتقا أمام علاقاتنا
الاستراتيجية .
اللقاء الثالث والاخير كان في احدى المؤتمرات في
طرابلس – ليبيا عام 1983 وبحضور الاخوة – فاضل ميراني و د. رؤذ شاوةيس و د. سعيد
بارزاني ، وكان لقاءً وديا تخلله عتاب حول بعض الامور التي حصلت سابقاً وكان مناسبة
لاعادة النقاش من جديد حول مسائل ظهرت وكانها خلافيه بسبب الظروف التي ادت الى
تجميد العلاقات لفتره طويله ومحاولات البعض في الاساءة الى علاقاتنا الثنائيه وفي
ذلك اللقاء أظهر موقفا قوميا شجاعا ومسؤولاً عندما خاطبني أمام الجميع : " يشهد
الله بانك مغدور يا صلاح " وكان ذلك بمثابة نقد ذاتي حول بعض الاحداث السابقه
وشكرته من جانبي على تلك البادره الحسنة واكدت له باننا مازلنا كما كنا في السابق
ولم نتغير بالنسبه لموقفنا المعروف تجاه البارزاني والبارزانيزم ، وقد شكل ذلك
اللقاء بداية تجديد العلاقات واعادة الصلات واللقاءات والتعاون المشترك التي لن
تتوقف ، ولن أنسى أبداً عندما امتنعت الوفود العربية الرسمية ( سورية – الجزائر –
اليمن الجنوبي – ليبيا ) عن ادراج بند في البيان الختامي للمؤتمر يؤكد على – الاخوة
العربية الكردية – حيث هدد رئيس الوفد السوري – محمد حيدر – بالانسحاب اذا اندرجت
كلمة – الاكراد – في البيان ، وبعد انفضاض الاجتماع خاطبني القائد ادريس البارزاني
في قاعة المؤتمر وبحضور د . محمود عثمان ومن باب الملاطفه اللاذعه : " ياصلاح كنا
نقول لك منذ سنوات بان اصدقاءك العرب واليساريين غير نافعين فلم تكن تبالي انظر
الآن يرفضون حتى التآخي والصداقة معنا " .
ولايسعني اليوم
إلا أن أقف باكبار امام ذكرى هذا القائد القومي الصلب الذي جمع بين امرين ودشن
معادلة مركبه قد تتكرر من بعده: تلميذ نجيب في مدرسة – البارزانيزم - وفي الوقت
ذاته أحد اعمدته الراسخة المكمله.